شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية
الإيمان باليوم الآخر
بسم الله الرحمن الرحيم .
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، قال الإمام شيخ الإسلام رحمه الله:
وكـذا الصراط يمـد فوق جهنم | فمُسلَّم نـاج وآخـر مهـمل |
والنـار يصلاهـا الشقي بحكمة | وكذا التقي إلى الجنان سيدخل |
ولكـل حي عـاقـل في قبـره | عمـل يقابلـه هناك ويسـأل |
هـذا اعتقـاد الشـافعي اسم> ومالك اسم> | وأبي حنيفـة اسم> ثم أحمـد اسم> ينقل |
فـإن اتبعت سبيلهـم فموفـق | وإن ابتدعت فما عليك معـول |
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على أشرف المرسلين نبينا محمد اسم> وعلى آله وصحبه أجمعين.
ذكرنا أن من أركان الإيمان: الإيمان باليوم الآخر؛ الذي هو عذاب القبر والبعث من القبور، وحشر الأجساد، وجمع الناس في يوم القيامة؛ أولهم وآخرهم، وما يكون في يوم القيامة بعد اجتماع الخلق.
أولا: أنه يطول وقوفهم، وذكر أن ذلك اليوم يكون كألف سنة، أو كخمسين ألف سنة، في قول الله تعالى: رسم> وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ قرآن> رسم> هذا اليوم هو يوم القيامة، ولكن قالوا: إن المؤمنين لا يُحِسُّون بطوله، وذلك لأن المؤمنين في نعيم، فهو عند المؤمن كصلاة مكتوبة.
وأما المعذبون فإنه يطول عليهم، فيكون عند بعضهم كأنه ألف سنة، وعند بعضهم كخمسين ألف سنة كما في قول الله تعالى: رسم> تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْن وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ قرآن> رسم> .
هذه الصفات تدل على أن هذا هو يوم القيامة، أنه اليوم الذي طوله كخمسين ألف سنة، وأن الكفار يرونه بعيدا، يستبعدونه، فيقولون: إنه غير صحيح وغير واقع، قال الله: رسم> وَنَرَاهُ قَرِيبًا قرآن> رسم> أي: نعرف ونؤكد أنه قريب؛ وذلك لأن كل ما هو آتٍ قريب، وقد أخبر الله تعالى باقتراب يوم القيامة، فقال عز وجل: رسم> اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ قرآن> رسم> أي: قرب حسابهم أي قرب يوم القيامة.
وقال الله تعالى: رسم> اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ قرآن> رسم> أي: قربت، وقرب قيامها، وقال الله تعالى: رسم> أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ قرآن> رسم> أي: قرب إتيانه، فكل ما هو آتٍ قريب. هذا اليوم الذي ذكر الله ما يكون فيه رسم> يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ قرآن> رسم> أي: تذوب وتتقطع، كما في قوله تعالى: رسم> وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ قرآن> رسم> وقال تعالى: رسم> إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ قرآن> رسم> رسم> إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ قرآن> رسم> رسم> وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا قرآن> رسم> فتتشقق السماء وتكون كالمهل، وتكون الجبال كالعهن، أي أن الجبال مع شموخها، ومع صلابتها تكون كالعهن؛ كما في قوله تعالى: رسم> وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ قرآن> رسم> يعني: كالقطن الذي نُفش وتقطَّع قطعا وطارت به الرياح.
فهكذا هذه الجبال تسير من مكانها، وتزول، وتبقى الأرض مستوية؛ يمدها الله تعالى كما في قوله تعالى: رسم> وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا قرآن> رسم> أي: يذر هذه الأرض قاعا صفصفا رسم> لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا قرآن> رسم> .
يجمع الله تعالى عليها خلقه؛ أولهم وآخرهم يجتمعون في صعيد واحد، ثم يطول وقوفهم، وفي هذا الوقوف، ورد أنه يلجمهم العرق، فمنهم من يأخذ العرق إلى كعبيه، ومنهم من يأخذ إلى ركبتيه، ومنهم من يأخذ إلى حقويه، ومنهم من يأخذه إلى ثدييه، ومنهم من يأخذ إلى ترقوتيه، ومنهم من يلجمه إلجاما.
وأما المؤمنون والأتقياء، فإنهم لا يتأثرون بذلك؛ ولكن إذا طال الوقوف طلبوا من يشفع لهم عند الله تعالى حتى يريحهم من طول الموقف، فيقولون: من يشفع لنا؟ فيقولون: ما أحق بهذا من أبيكم آدم؛ فيعتذر آدم اسم> ثم يأتون نوحا اسم> فيعتذر، ثم يأتون إبراهيم اسم> ثم موسى اسم> ثم عيسى اسم> وكل منهم يذكر له ذنبا أو يعتذر، فإذا أتوا إلى نبينا -صلى الله عليه وسلم- قال: أنا لها فيشفع حتى يريح الله الخلق من طول الموقف، فيجيء الله لفصل القضاء بين عباده كما يشاء يأتي لفصل القضاء بين عباده، ثم يحاسبهم.
فأولا: تُنشر الدواوين التي كتب فيها الأعمال، فيقرأ كل منهم كتابه، ويُقال: رسم> اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا قرآن> رسم> يقول الله تعالى: رسم> وَوُضِعَ الْكِتَابُ قرآن> رسم> يعني: كتاب الأعمال، رسم> فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ قرآن> رسم> خائفين رسم> مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا قرآن> رسم> تنشر لهم هذه الكتب التي كتبت فيها سيئاتهم، وكتبت فيها حسناتهم وكتبت فيها أعمالهم فلا يفقدون صغيرة ولا كبيرة، كلها محصاة عليهم؛ كما قال الله تعالى: رسم> يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ قرآن> رسم> أحصاه الله وكتبه عليهم، ونسوه؛ ولكن إذا عرض عليهم لا يقدرون على أن ينكروا منه شيئا، هذا الحساب.
ورد قوله صلى الله عليه وسلم: رسم> ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن، فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أيسر، فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أمامه فلا يرى إلا النار؛ فاتقوا النار، ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة متن_ح> رسم> .
كذلك أيضا مما يكون في يوم القيامة ما تقدم من الميزان الذي يوضع رسم> وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ قرآن> رسم> وكذلك في عرصات القيامة الحوض المورود، وتقدم أيضا أنه أكبر حياض الأنبياء، وأنه -صلى الله عليه وسلم- أكثرهم واردا.
ومما يكون في يوم القيامة تطاير الصحف ؛ فآخذ كتابه بيمينه، وآخذ كتابه بشماله أو من وراء ظهره، قال الله تعالى: رسم> فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ قرآن> رسم> .
قال بعض العلماء: إنه مكتوب في ذلك الكتاب أنه بطاقة صغيرة علامة على السعادة مكتوب فيها: هذا كتاب من الله تعالى لفلان ابن فلان أدخلوه جنة عالية قطوفها دانية؛ يُسَرُّ بذلك ويشرق وجهه كما في قوله تعالى: رسم> وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ قرآن> رسم> فيشرق وجههم ويسفر كما في قوله: رسم> وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ قرآن> رسم> .
يقول لمن لقيه: رسم> هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ قرآن> رسم> كل من لقيه يفرحه رسم> هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ قرآن> رسم> .
ثم ذكر الله: رسم> وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ قرآن> رسم> .
هكذا أخبر الله أنه يتمنى أنه لم يؤت كتابه، في آية أخرى يقول الله: رسم> وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ قرآن> رسم> قيل: إن يده اليسرى تلوى من وراء الظهر؛ فيعطى كتابه بيده اليسرى، وتكون ملوية من وراء ظهره علامة على شقائه: رسم> وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصْلَى سَعِيرًا قرآن> رسم> يدعو ثبورا في الموقف، ويدعو ثبورا في النار؛ كما يقول تعالى: رسم> دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا قرآن> رسم> يدعون على أنفسهم بالثبور الذي هو الخسار، هذه حالتهم عندما تتطاير الصحف.
ورد أن النبي- صلى الله عليه وسلم- سئل هل يسأل بعضهم بعضا، أو يسأل أحدهم عن إخوته، وعن أحبابه، وأهله فقال: رسم> أما في ثلاث حالات فلا يتساءلون ثم ذكر عند الميزان حتى يعرف هل يخف ميزانه ويثقل، وعند تطاير الصحف حتى يعرف هل يأخذ كتابه بيمينه أو بشماله، وعند الحساب حتى يقرأ حسابه متن_ح> رسم> .
ويحاسب نفسه؛ يعني أنهم في هذه الحالات في أمر عظيم، وفي أمر مهم لا شك أن هذا مما جاءت الأدلة به يؤمن به أهل السنة، ويثبتون ذلك وليس في العقل، ولا في النقل ما يردّه، فيكون من عقيدة المسلمين الذين يؤمنون بالله وباليوم الآخر.
مسألة>